درباره پایگاه  اضافه کردن به علاقه مندیها  نقشه سایت  صفحه اصلی
 

صفحه اصلی > کتابخانه

شناسنامه کتاب:التمهید فی شرح قواعد التوحید/سرشناسه: ترکه اصفهانی.علی بن محمد.شارح/پدیدآور:علق علیه محمد رضا نکونام/مشخصات نشر:قم.ظهور شفق.1385/شابک: 0-42-2807-964-978/یادداشت: فیپا/رده بندی دیویی:ق4ت/3/283/موضوع:قواعد التوحید.نقدو تفسیر/رده بندی کنگره:902121385/شماره کتاب خانه ملی:37320-85م

مقدّمة المصحّح

بسم الله الرحمن الرحيم

قل هو اللّه أحد. اللّه الصمد. لم يلد ولم يولد. ولم يكن له كفوا أحد.

يبحث هذا الكتاب عن مطلق الوجود ومظهره، وهو بهذا الاعتبار؛ أي باعتبار اطلاقه لا تركّب فيه ولا كثرة؛ بل لا اسم من الأسماء الحقيقيّة ولا رسم ولا نعت ولا وصف له، فإنّ الصفات والأسماء والأحكام والآثار لا تُنسب إلى الذات المطلق ولا إلى مطلق الذات من غير اعتبار التعيّنات ووجوه التخصّصات، فتكون هذه النظريّة من أهمّ نظريّات التي نختارها في مسفوراتنا العرفانيّة، فلا تغفل عنه.

فعلى هذا، الحقّ سبحانه إنّما يقتضي لذاته الوحدة الذاتيّة الحقيقيّة وتشخّصه المعبّر عنه عند القوم ب «غيب الهويّة» و«اللا تعيّن»، فلا مجال للاعتبارات فيه أصلاً، حتّى عن هذا الاعتبار أيضا، فلا يشوبه من اللواحق الاعتباريّة شى‏ء أصلاً، نعم كان التشكيك في مراتب تنزّلاته ومجالي ظهوراته ثابتا بحسب شؤونه الذاتيّة وأحواله لا في نفس ذاته.

فيكون اللا تعيّن أوّل ظهور الحقّ تعالى الذي كان مستلزما للشعور بسائر الشؤون والأحوال والاعتبارات للذات على وجه جملي، فمتعلّق الشعور

الصفحة 13)

*********

المذكور، إمّا أن يكون الذات في بطونها بحيث يكون الكلّ ثابتا مشاهدا كثبوت سائر المراتب العدديّة في الواحد مثلاً، فحينئذ يسمّى هذا الشعور في عرفهم ب «الكمال الذاتي» و«المقام الأحديّة» المستلزم للغنى المطلق الذي هو عبارة عن ظهور الذات في بطونها على نفسها بالوجه المذكور بدون الاحتياج إلى التطوّر بالأطوار الغيريّة والأدوار السوائيّة أصلاً.

وإمّا أن يكون متعلّق الشعور المذكور، نفس الشؤون الذاتيّة، بإظهار ذواتها لأنفسها أو بإظهار بعضها للبعض في المراتب، وحينئذ يُسمّى هذا الشعور ب «الكمال الأسمائي» أو «المقام الواحديّة».

إذا عرفت هذا، فاعلم: أنّه لا مغائرة بالاعتبار الأوّل بين الذات وكلّ واحد من الأسماء الأربعة، كما أنّه لا مغائرة بين كلّ واحد منها مع الآخر. وأمّا بالاعتبار الثاني، فبينهما تمايز نسبي مظهري في مراتب الظهور الذاتيد والعقليّة.

فهذه الهويّة الواجبة لذاتها لمّا ظهرت بحسب إلارادة المخصِّصة فانبعث انبعاثا إراديّا إلى المظهر الكلّي والكون الجامع الذي يكون مظهرا تامّا ومجلىً جامعا للهويّة الغيبيّة وحضرة اللا تعيّن، فهو حقيقة الحقائق، و مسمّى الأسماء، وأبسط مظاهره وأقربها، وأعمّ من الإنسان الكامل، وشامل له، المعبّر عنه في القران الكريم ب «العالّين»، فهو مقام الخلافة الحقيقيّة الالهيّة، والولاية الكليّة الظلّيّة.

ومظهر هذه الحقيقة الإلهيّة الإنسان الكامل الجامع بين مظهريّة الذات المطلقة وبين مظهريّة الأسماء والصفات والأفعال بما في نشأته الكليّة من الجمعيّة والاعتدال، وبما في مظهريّته من السعة والكمال، وهو الجامع أيضا بين الحقائق الوجوبيّة ونسب الأسماء الإلهيّة، وبين الحقائق الإمكانيّة والصفات الخلقيّة، فهو جامع بين مرتبتي الجمع والتفصيل، محيط بجوامع ما في سلاسل الظهورات، فبناءً على هذا، فعليك في سلوك طريق العرفان أن تبدء

الصفحة 14)

*********

بنفسك، فعليك نفسك، لأنّ كلّ من عرف نفسه فقد عرف ربّه حقّا، فلا تكون متحيّرا في طرق أخرى، فللإنسان أن يبلغ إلى مرتبة حقيقته الجامعة لسائر الأسماء والهويّة السارية في الحقائق وكماله الحقيقي مع معيّة القيوميّة، ولا يمكن الوصول به بعد انحلال العُقَد الحاصلة له عند تطوّره بالأطوار الاستيداعيّة والاستقراريّة، والتخلّص عن القيود الحاصلة في تلك المراتب ممّا اكتسب من كلّ واحد منها حين تلبّسه بها وتطوّره بحسبها؛ حتّى يدخل في الانطلاق الأصلي ويحصل له الوصول إلى الإطلاق الذاتي؛ الذي هو مقتضى تلك الحقيقة، فيصل إلى الكمال الحقيقي الذي هو إدراك الحقائق على ما هي عليه إدراكا حقيقيّا عينيّا.

هذا محصّل ما في هذا الكتاب؛ أعني «التمهيد في شرح رسالة قواعد التوحيد». والمصنّف والشارح بلغا الجهد في أن يبرهنا هذه النظريّة العرفانيّة بأوثق البراهين العقليّة بالرويّة المشائيّة؛ لأنّ خطابه في هذا الكتاب مع المتأخّرين من المشّائين الذين دخلوا على هذه النظريّة القيّمة ونزّلوها على مُدرِكاتهم النازلة المشوبة، وتزيّفا ما يمكن أن يشوّش سائر الطباع والأذهان من مذاهب المخالفين، ودفعا ما يرد على ذلك من الشُبه المانعة لظهور الحقّ كما هو على الطالبين، وتعرّضا لدفع ما يرد على أمّهات الأصول العرفانيّة ومعاقد قواعدهم من الشكوك الكاشفة عن كنه تحقيقاته والأسئلة المستجلية لغاية تدقيقاته؛ إذ به ينحلّ عقود القيود المتراكمة في العقائد، وينحسم موادّ الحجب الحاجزة للبصائر عن إدراك الحقائق، ولكن مع الأسف، هذه الرويّة قد توجب الخلل في المعاني الواردة والتنقيدات عليها، نبيّنها في شرحنا الكبير على التمهيد الذي يكون في عدّة مجلّدات بأحسن وجه، فهو شرح مطوّل لا نظير له بين أقرانها، أوضحت فيه مقاصد هذه الرسالة، وبذلت الجهد في إبانة

الصفحة 15)

*********

مسائلها وإقامة البرهان عليها ودفع الإشكالات والإيرادات والتنقيدات ومعايير الجمهور التي وردت على الوحدة الحقّة الحقيقيّة وتشخّصها، ولاسيّما ما ورد في تحرير التمهيد الذي يكون بينه وبين هذه المسألة بون بعيد، والمستشكل في تحريره مبتلا بهذا الإشكال المذكور الآن بأنّ مصنف الكتاب قد وقع فيه، وهو إيراد المسائل العرفانيّة بأسلوب فلسفيّة، ولا فرق بين رويّة المشائيّة وبين رويّة الحكمة المتعالية من هذه الحيثيّة؛ لأنّ كِلَي الطريقين بأجنبيّين عن مقاصد العرفاء الشامخين، وكلاهما نزّلا المعاني العرفانيّة ودخلا فيه ما دخلا، قد بيّناه في ذلك الشرح كلّه.

وأمّا هذه النسخة، فقد بذلت الجهد في تصحيحها بأحسن وجه مع مقابلتها بنسخ أخرى وتدريسها كرارا في حوزة العلميّة المباركة بقم المقدّسة، وهدفي في تحقيق الكتاب هو اخراج نسخة صحيحة مفهوما، لا يشوبها ابهام، خالية من التعقيد والالتواء ، بعيدة عن مظاهر الشكليّة التي يقتصر عليها بعض المحقّقين في عملهم، وعاملت فيه وفق أحدث القواعد العلميّة والفنيّة في موضوع التحقيق و التصحيح، مع مراعاة فنّيّة الترقيم والتنقيط وصياغة الكلمات الاملائيّة القديمة بقالب فنّي جديد، وعلّقت عليها ما يوضح ألفاظها ومعانيها التي لا يتسنّى فهمها بسهولة.

هذا، والقضايا العرفانيّة في هذا الكتاب الذي يكون من أفضل الكتب في هذا العلم وأجودها وأحسنها، لا يتجاوز عن حدّ العرفان المحبّي المدرسي، وهنا طور وراءه، وهو العرفان المحبوبي، المعتمد على العشق الوجودي، المصرع للعشّاق ومقتلهم، وعرفاءه شهداء ملطّخ بالهمّ والغمّ والحزن والمصاب والدم، الموصوف ب «البلاء للوِلاء» ، ونحن نهتمّ بتبيانه في موسوعتنا العرفانيّة التي تكون أجمعة كتب في هذا الباب، إن شاء اللّه.

وآخر دعوانا أن الحمد للّه ربّ العالمين

الصفحة 16)

*********

 

مطلع الکتاب

 

الصفحة 17)

*********

الصفحة 18)

*********

الطليعة

الحمد للّه الذي جعل¨(1) مكامن(2) ظلال جلاله مجالي أنوار جماله؛ تفصيلاً لِما أجمل من الأحكام(3)، وصيَّر صور تجليّاته « من العلم إلى العين» مشارق شموس المعاني؛ تكميلاً لما عمَّ من الأنعام، فأصبحت لعباده من أولى وداده(4)، ولأهل عناده(5) من ذوى بِعاده(6) مطالع(7) طوالع(8) المعارف، ومغارب(9) طلائع(10) العوارف؛ إسعافا « أي اعانةً» لما عبّر عنه لسان الاستعداد من المرام.

فسبحانه من باطن ليس لخفائه سبب سوى غاية الظهور بنيِّرات منصّاته(11) « مرتفعات بعضها فوق بعض»، وما تستوجبه من لوامع الأضواء ظهور


1ـ الجعل في عرفان بمعنى الظهور، وهو غير مصطلحه الفلسفي الذي بمعنى الخلق، والوجه في فرقها هو أنّه يدلّ على أنّ العارف يرى الوجود منحصرا في ذات الحقّ وينفي الإثنينيّة ويرى أنّ غيره هو ظهورات هذه الحقيقة فقط ولاغير، بخلاف ما في سائر اللغات.

2ـ من كمن كمونا؛ أي اختفى.

3ـ أي الهويّات.

4ـ وهم أوليائه.

5ـ وهم ائمّة الكفر والأشقياء.

6ـ بِعاد : سجع المصنف «بعاده» مع «وداده» وإن لم يستعمل في اللغة، وهم الجهلاء.

7ـ أي قوس النزول، وهي معنى «إنّا للّه».

8ـ طوالع المعارف: منتهى مطلع لمعارف الإلهيّة، التي يشرق منه شموس الصور المعاني على قلوب الأولياء.

9ـ المعنون بقوس الصعود، الذي أشارت إليه: «إنّا إليه راجعون».

10ـ طلائع العوارف: هي بمعنى طوالح المعارف مع فرق مّا، وهو أنّ الاشراقات التي هي مطلع المعارف الإلهيّة على قلوب أولياء تكون لأهل عنادهم مغربها وعلّة حجابهم وغفلتهم عنها.

11ـ المَنَصَّة في هذه العبارة: مجلى ظهور الحقّ.

الصفحة 19)

*********

الأنوار بالأكمام(1). وجلّ شأنه من ظاهر لا علّة لظهوره غير توغُّل كونه في بطائن حجبه، وما يستدعيه من غياهب الظلام(2)، فباطن لا يكاد يخفى، وظاهر لا يكاد يبدو .

ثمّ الصّلاة والسلام على محمَّد؛ مطلع تناشر كلّ خير وتمام، ومفتتح فواتح كلّ فتح ، ومختتم كلّ ختام(3)، ذلك(4) هو النور الساطح الذي لا يشوبه شوائب الفيء، ولا غوائل(5) الغمام.

 لا ترم في شمسه ظلاً سوي

 فهي شمس وهي ظلّ وهي فيء

وعلى آله مشكوة شمل كلّ شتات، ومصباح جمع كلّ نظام.

مِنصّة التوحيد

وبعد، فإنّ مسألة التوحيد حَسَب ما حَقَّقه المُشاهدون، وطبق ما شاهده المحقّقون من أُولي الكشف والعيان، ممّا لَم يَهْتَدِ إليه إلى الآن نظرُ ذوي العقول بمشاغل الحجج والبرهان ؛ إلاّ مَن أيّده اللّه بنور منه، ووفَّقه بهدايته إليه؛ من الحائزين منهم مَرْتَبَتَي الاستدلال العقلي والشهود الذوقي، الفائزين بمَنْقَبَتَي العلم الإنّي والكشف العِلّي، الذين خلّصهم اللّه تعالى عن مضائق المقدّمات من الخطابيّة والبرهانيّة إلى أفْضِيَّة الواردات الكشفيّة والمخاطبات العيانيّة، بحُسن مُتابعة الأنبياء(6)، صلوات اللّه عليهم أجمعين؛ الذين هم روابطُ رَقائق الحقائق(7) من عين الجمع(8) إلى محلّ التفصيل، ووسائط نزول المعاني عن سماء


1ـ أي النَور والبرعم.

2ـ مفرده غيهب، وهي المظلم.

3ـ وردت الروايات الكثيرة في هذا المعنى، منها: «بكم فتح اللّه و بكم يختم». الكافي، ج4، ص576.

4ـ أشير «ذلك» بلحاظ المُظهري إلى الحقّ وبعناية المَظهري إلى النبي الخاتم صلى‏الله‏عليه‏و‏آله لكيلا يغفل عن الحقّ في الصلاة عليه ، فبناءً على هذا لا تكون الجملة معترضةً.

5ـ أي الحقد والخديعة.

6ـ الماتن والشارح اهتمّا بالجمع بين طريقي الاستدلال العقلي والكشف العياني مع الشريعة، وعلى هذا وصف الشارح العرفاء بأحسن متابعي الأنبياء عليهم‏السلام .

7ـ الحقائق هي الأسماء والصفات الإلهيّة، والمبادي العالية، المعبّر عنها ب «مقام الواحديّة»، ورقائقها هي المجالي والمظاهر الخلقيّة.

8ـ أي الواحديّة.

الصفحة 20)

*********

القدس « أي العلم» إلى مقام التنزيل « أي العين»، سيّما مَن تَأسّى منهم أسوة حسنة بالأوّل منهم وجودا ورتبةً، والآخر منهم زمانا وبعثةً؛ محمّد، صلى اللّه عليه وآله، الذي هو غاية الغايات وآثارِه المُنيفة(1) مورد الكمالات، ومنبع السعادات، عليه وعلى آله أفضل الصلوات وأكمل التحيّات.

ولذا تَرى أولياءه الشريفة إذا حاوَلوا تحقيق معاني التوحيد، وفَّقوا بين البراهين العقليّة والنواميس النقليّة بما لا يتصوّر عليه المزيد، حيث يدفعون شبهات بعض الفلاسفة القاصرين عن تطبيق ما أفادهم النظر الصحيح لما أُنزل عليهم من النصّ الصريح، وكذلك في سائر العلوم الحقيقيّة، والمعارف اليقينيّة، قد بَيّنوا مواقعَ خَلَلِهم، وأظهروا مواضع زَلَلهم، بما يُستبان منه محلَّ اللبس، ويتميَّز به السُهاء من الشمس، كلّ ذلك إنّما هي شعشعة « ضوء الشمس» من ذكاءٍ(2) تُميطُ « تبعد» ليلاً أدْهم(3)، بل شِنْشِنَة(4) أعرفُها من أخزم « أي منخفض».

هذا، وإنّ زماننا هذا قد بلغ منتهى كماله، واستوى دوحةُ(5) إقباله، وحان أَوان اجتناء ثِمارِه، وكشف القناع عن مخدَّرات أبكاره « أي المستورات من الأفكار التي يخاف على افشائه»، بما استنارت على صفحات أيّامِه، من الآثار الموجودة في الكتب المنزّلِة السماويّة والزّبر الكشفيّة العاليّة « أي السنّة»، ولعمرِنا تَجِد ما لا تَصِل إليه الأكابر إلاّ بعد ارتياض نفوسهم بالرياضات المُتعبة الشاقَّةِ، مَدَى الليالي والأيّام، قد صار مُضغة للخاصِّ والعام، وما كان اِءفشائه أَفتى بإهراق دَم الكُبار، قد أصبح في الاشتِهار كالشمس في رابعة من النهار. وبالجملة، ما لا يمكن للكُمَّلِ أن يَطؤوا مَراحلَ


1ـ وهي الكتاب والسنّة، والمنيفة: المرتفعة.

2ـ أي ايقاد النار.

3ـ أي الأسود.

4ـ وهي كوكب خفي من بنات نعش الصغرى، والناس يمتحنون به أبصارهم.

5ـ هي الشجرة العظيمة من أيّ نوع كانت، والمراد ظلالها.

الصفحة 21)

*********

طُواه(1) إلاّ بعد خلع النعلين، ولا لأحد أن يَحُوم حولَ حِماه إلاّ بإنطواء القدمين؛ بل بالانخلاع عن القوّتين « أي الفناء التامّ»، قد تسمع أَسراره من شراكهما، وتُقْتَنَص نَوادي(2) دقائقه من رقائق نَضْدهما(3) واشتباكهما، اقتناص شَوارِد حقائقه من حبائل إدراكهما، فإنّ اللبيب بقوَّتَي الوهم والعقل، وترتيب مدركاتهما بَميامِن(4) هذه الأحيان والأوقات وصل إليه وعَثَر عليه وصوله إلى أجلى اليقينيّات، وعُثوره على أوّل البديهيّات.

 كمْ ذا تَلوُحُ بالشُّعْبَتَيْن والعَلَم

 والأمر أَوْضَحُ من نار على عَلَم(5)

قَصَرُ المشّائين

على أنّ المختار عند الصدر الأوّل من الحكماء « الأقدمين من القدماء»، الذين هم من جملة الأصفياء من الأنبياء، والأولياء، عليهم السلام، على ما أَخْبَرَ عنه المورِّخون، كآغاثاذيمون، المدعوّ بلسان الشريعة ب «لقمان»، وهُرمس الهرامسه، المدعوّ ب «إدريس»، وفيثاغورث المدعوّ ب «شيث»، وأفلاطن الالهيّ، ليس إلاّ هذا. لكن المتأخّرين من أصحاب المعلّم الأوّل؛ أعني المشائين، لمّا قَصَروا طريقَ الاستفاضة، واستعلام الحكمة الحقّة على الحجّة المحضة « أي البرهان»، والبحث البحت، حَجَزهم « منعهم» حُجب الشبهات المظلمة الناشئة ممّا أسِّست عليه مناهجهم من القواعد الجدليّة، عن أن يتفطّنوا لما هو الحقّ في تلك المسألة الجليّة « أي التوحيد».

والذي يقضى منه العجب، أنّ من رام منهم إفادة تحقيق، أو زيادة تدقيق، إنّما جاء بإلحاق منع ونقض، فأصبحت مؤلّفاتُهم بتراكم المناقضات مجموعةً من ظلمات بعضها فوق بعض، فما يَخْلُص عن دياجيرها(6) إلاّ الأقلّون، « وما


1ـ اسم لموضع.

2ـ أي الكلام الذي يخرج منك وقتا بعد وقت.

3ـ أي ضمّ بعضه إلى بعض.

4ـ جمع الميمنة؛ أي اليمين.

 5ـ الشعبة آلة من الآلات النجوميّة، ويستعار بالشعبتين عن الدور والتسلسل، و«النار على علم» يلوح بالرؤية والكشف العرفاني.

6ـ وهي جمع ديجور، وهو الظلام.

الصفحة 22)

*********

ظلمهم اللّه ولكن كانوا أنفسهم يظلمون»(1).

 

رسالة «قواعد التوحيد» وعظم شأنها

وأمّا الرسالة التي صنَّفها مولاي وجَدّي؛ أبوحامد محمّد الاصبهاني، المشتهر ب: «تُرْكَه» قدس‏سره فإنّه مع جعلها مشتملةً على البراهين القاطعة والحجج الساطعة على أصل المسألة، وِفقَ ما ذهب إليه المحقّقون، قد بالغ في دفع تلك الشبهات بلطائف بيانه، وبذل الجهد في إماطة تلك الأَذيّات « أي الضلالات والشبهات» بِمَكابِس(2) تبيانه، بحيث لا يبقى لمن له أدنى دَرَبة(3) في العقليّات، شائبةُ خدشةٍ في ما هو الحقّ من تلك اليقينيّات، لكن لبُعد غَوره في الحكميّات وعلوّ طوره في البرهانيّات، قد قَصُرتْ فُهوم أكثر المستفيدين عن مرامي مقاصده المنيعة، وعجزت مدارك سائر المسترشدين عن مباني فوائده الرفيعة، فحاولتُ حين مذاكراتي مع بعض المشاركين في التحصيل من خلَّص الأخوان، أن أكشف قناع الإيجاز عن وجوه مخدَّرات تلك العبارات بأوضح بيان؛ تعميما لفوائدها المنيفة، وتتميما لعوائدها الشريفة، مشيرا إلى معظم أصول أهل الكشف وأمّهات قواعدهم، مؤميا إلى معاقد تلك المباحث وكليّات مقاصدهم، حافظا للألفاظ المتداولة بينهم وعباراتهم، مراعيا للمناسبات المعتبرة بين مصطلحاتهم ومُسْتَعاراتهم، حذرا من أن يُفهَمَ خلاف المراد، فيفضي إلى الخَبْط في البحث والفساد. وقد سمّي بعد فراغه ب «كتاب التمهيد في شرح رسالة قواعد التوحيد».

على أنّني في فترة شاغلة عن طريق المباحثة، واشتغال صارف عن المطالعة والقيل والقال، فالمرجوّ من العاثر(4) على ما يُرى من السهو، أن يُسبل عليه ذيل العفو، عصمنا اللّه وإيّاكم عن طريق الغرور والأباطيل، وهدانا


1ـ آل عمران / 117.

2ـ أي الصلاب والشداد.

3ـ أي صار ماهرا وبصيرا.

4ـ أي المطّلع.

الصفحة 23)

*********

وإيّاكم سواء السبيل، وسقانا من المشرب الخاصّ المحمّدي، عليه وعلى آله من الصلوات أفضلها وأتّمها، ومن التحيّات أشملها وأعمّها، ما يُروّي(1) الغليل(2).

ثّم إنّه لمّا كان سوق الكلام في هذه الرسالة إنّما هو على مساق أهل الاستدلال، ناسب أن نُصدّر الكلام بمقدّمة مُبِيَّنَة لتصوير ما فيه على سبيل الإجمال، مميزّة بين ما يختصّ بهذا العلم من الموضوع والمبادي والمسائل، تأسّيا بهم وجريا على عادتهم في تقديم هذا المقال. وبعد ذلك نشرع في تحرير مقاصد الرسالة وتبيين فوائدها، إن شاء اللّه وَحدَه العزيز.

في بيان موضوع العلم الإلهي

أمّا المقدّمة: فاعلم أنّ العلم المبحوث عنه هيهنا، لمّا كان هو العلم الإلهي المطلق الذي هو أعلى العلوم مطلقا، يجب أن يكون موضوعه أعمّ الموضوعات مفهوما، بل أتمّ المفهومات حيطةً وشمولاً، وأبْيَنُها معنىً، وأَقْدمها تصوّرا وتَعقّلاً، لما تُُقرِّرَ في فنّ البرهان، إنّ علوّ العلوم بحسب عموم الموضوع وشمول حيطته. فالعلم إنّما يكون أعلى مطلقا إذا كان موضوعه أعمّ مطلقا بالنسبة إلى سائر الموضوعات حتّى يكون موضوعات جميع العلوم من جزئيّاته(3).

فلئن قيل: إنّما يلزم ذلك « أي الأعمّيّة»، أنْ لو وجب أن يكون موضوع السافل « أي الفلسفة» أخصّ من موضوع العالي « أي العرفان في هذا البحث» مطلقا، وليس كذلك؛ لجواز كونه مبائنا كالموسيقي بالنسبة إلى الحساب فإنّهم صرّحوا بأنّه تحته مع تباين موضوعهما بالذات(4).

قلنا: يجب أن يكون موضوع السافل تحت موضوع العالي وأخصّ منه، إمّا


1ـ أي الإشراب.

2ـ العطشان.

3ـ كما في الكلّي الطبيعي وأفراده.

4ـ لأنّ الموسيقي من مقولة الكيف والحساب من الكمّ.

الصفحة 24)

*********

بذاته أو بالحيثيّة المبحوث عنها، وإلاّ لا يكون سافلاً، وعلم الموسيقي إنّما جُعل تحت الحساب باعتبار حيثيّته، فإنّ النَّغَمَ المبحوث عنها فيه وإن كانت من الكيفيّات المباينة لمطلق الكمّ، لكن لا يصير موضوعا للموسيقي إلاّ إذا عرضت لها عوارض من باب الكمّ المنفصل، « فالموسيقي كمّ منفصل متّصف بالكيف»، فهو بهذه الحيثيّة يكون تحت الحساب ضرورةً.

لا يقال: لو كفى هذا في تحقّق النسبة هيهنا، لم يلزم أن يكون موضوع الأعلى أعمّ بالذات، لجواز أن يكون عمومه باعتبار حيثيّة لاحقةٍ، فلا يتمّ إذا البيان.

لأنّا نقول بعد المساعدة على الملازمة المذكورة؛ إنّ الحيثيّة هيهنا ليست خارجةً عن الموضوع؛ بل نفس مفهومه(1)، فالعموم بالذّات حينئذ لازم على التقديرين.

فإن قلت: لو كان حيثيّة الموضوع هيهنا نفسَ مفهومه وطبيعته، يلزم أن يكون البحث فيه عمّا يلحق الوجودَ من حيث إنّه وجود، فيكون بحثه مقصورا على ما لا يكون في وجوده وحدوده محتاجا إلى المادّة، ضرورة أنّ ما يكون فيهما أو في أحدهما محتاجا إلى المادّة، فالبحث عنه إنّما يكون عمّا يلحقه من الحيثيّة الخاصّة به وإلاّ فلا يكون بحثا عنه، وحينئذ يكون هذا هو العلم المسمّى ب «علم ما بعد الطبيعة»، لا غير « فيكون موضوع العلم الوجود المطلق كما قال به الحكيم».

قلنا: إنّما يلزم ذلك أنْ لو كان الوجود المأخوذ هيهنا موضوعا، هو الوجود المجرّد المطلق، وأمّا إذا كان هو مطلق الوجود، بدون اعتبار الاطلاق معه من حيث هو كذلك ، فلا شك أنّ سائر الخصوصيّات والحيثيّات؛ ماديّةً كانت أو


1ـ السعة الوجوديّة للموضوع تقتضي أن تكون كلّ الحيثيّات نفس موضوعه، فبناءً على هذا يكون البحث من حيث الوجود لا من لواحقه.

الصفحة 25)

*********

غير ماديّة ـ تكون مندرجةً فيه، كما سيجيء بيانه على التفصيل.

فإن قلت: هذا « أي أنّ موضوع الفلسفة مقيّدة بالاطلاق» غير موافق لما عُلِم من تَصَفُّح كلامهم، فإنّ شيخ المشّائين؛ ابن سينا قدس‏سره قد صّرح في الفصل الثاني من المقالة الأولى من إلهيّات الشفاء، من أنّ الموجود بما هو موجود أمر مشترك بين المقولات وأنّه يجب أن يجعل الموضوع لهذه الصناعة.

قلنا: أنّ الموجوديّة المشتركة بالمعنى الذي جعل به موضوعا للصناعة وإن شملت جميعَ المقولات من حيث أنّها عارضة ايّاها، لكن خصوصيّات كلّ منها وحيثيّاتها ليست داخلةً فيها ولا صادقةً عليها بما هو هو عندهم، فيكون بالحقيقة هو المعنى المجرّد(1)، دون المعنى الذي جُعل به موضوعا لهذا العلم(2)، فإنّها « أي المقولات» بهذا المعنى « الإطلاقي» نفس حقيقة الخصوصيّات، وعين تلك الحيثيّات؛ إذ تلك إنّما هي تصوّر تعيُّناتها المتمائزة بمجرّد النسب والإضافات وصنوف الاعتبارات، على ما ستطّلع عليه، إن شاء اللّه تعالى.

فإذا عرفت هذا، عرفت أنّ الفرق بين هذا العلم الإلهي، والعلم الإلهي المسمّى ب «ما بعد الطبيعة»، كالفرق بين المطلق والمقيّد من غير فرق.

ثمّ لمّا تقّرر بحكم الحصر العقلي أنه ليس ولا واحد من المفهومات إلاّ وهو مندرج تحت موضوع أحد من العلوم الثلاثة؛ أعني العلم المنسوب إلى الطبيعة وما بعدها والمتوسّط بينهما اندراج موضوع ما هو الأعلى من تلك العلوم تحت موضوع هذا العلم ، ظهر وجوب عمومه بالنسبة إلى سائر المفهومات مطلقا.

ووجوب كونه أبينُها معنىً وأقدمها تصوّرا أيضا؛ ضرورة أنّه لو كان بين المفهومات ما هو أبين منه يلزم أن لا يكون هو أعمّ المفهومات مطلقا، وإلاّ


1ـ فهو مفهوم مجرّد لا مطلق الوجود.

2ـ أي العرفان، وهو عبّر عن الفلسفة ب «الصناعة» وعن العرفان ب «العلم».

الصفحة 26)

*********

يلزم أن يكون الخاصّ أبين من العامّ، وذلك محال.

وإذا ظهر اندارج سائر الموضوعات تحت موضوع هذا العلم، ظهر حكم سائر المسائل والمبادي التي هي أحكام الموضوع ومبيّنات تلك الأحكام.

وإذا عرفت هذا، فاعلم: أنّ التعبير عمّا يصلح لأن يكون موضوعا لهذا العلم من المعنى المحيط والمفهوم الشامل الذي لا يشذّ منه شيء، ولا يقابله شيء عسير جدّا. فلو عُبّر عنه بلفظ الوجود المطلق أو الحقّ « أي بالنسبة إلى الذات اللا متناهية التي تسع كلّ شى‏ء» إنّما ذلك تعبير عن الشيء بأخصّ أوصافه الذي هو أعمّ المفهومات هيهنا؛ إذ لو وُجد لفظ يكون ذا مفهوم محصَّل أشمل من ذلك وأبين، لكان أقرب إليه وأخصّ به، وكان ذلك هو الصالح لأن يُعبّر به عن موضوع العلم الإلهي المطلق لا غير .

لفظة «الوجود»

ثُمّ أنّه ليس بين الألفاظ المتداولة هيهنا شيء أحقّ من لفظ الوجود بذلك « أي موضوع العلم الالهي»؛ إذ معناه أعمّ المفهومات حيطةً وشمولاً، وأبينها تصوّرا، وأقدمها تعقّلاً وحصولاً، بالوجهين:

أمّا الأوّل، فلأنَّ تحقّق معنى نسبة العموم والخصوص راجع إلى أنّ المتّصف بأحد الحصولين من أفراد الخاصّ مندرج في المتّصف بذلك الحصول من أفراد العامّ دون العكس، وبيِّنٌ أنّ كلّ مفهوم لا يتحقّق عموم المفهومات إلاّ بعد اتّصافها بأحد قسميه لابدّ وأن يكون ذلك المفهوم مطلقا أعمّ المفهومات ضرورةً.

وأمّا الثاني، فلأنّ معنى كون الشيء بيِّنا أو غير بيِّن أيضا راجع إلى عدم احتياجه في الاتّصاف بأحد الحصولين والوجودين إلى واسطة وإلى احتياجه إليها، فإنّ ما يكون في الاتّصاف المذكور مسبوقا بغيره ومحتاجا في تلك

الصفحة 27)

*********

النسبة الاتّصافيَّة التي بينهما إلى واسطة، يكون بعيدا عن الحصول المذكور ويقال: إنّه غير بيِّن، ويتفاوت البعد بحسب قلّة الوسائط وكثرتها، وما لا يكون في الاتّصاف المذكور مسبوقا بغيره ولا محتاجا فيه إلى واسطة؛ بل له الاتّصاف بالحصول المذكور أوّلاً وبالذات يكون قريبا منه، ويقال: إنّه بيِّن، وبيِّنٌ أنّ كلّ ما تكون نسبة القرب من خواصِّه منه توجب أن يكون المنتسب إليه بيِّنا، ونسبة البُعد عنه تستدعي أن يكون غير بيِّن لابدّ وأن يكون أبين المفهومات وإلاّ لم تكن تلك النسبة موجبةً للتبيين ولا عدمها مانعا له، على أنّه أقرب المعاني بالنسبة إلى المبدء؛ فإنّه ما من شيء يتحقّق بنفسه « وهي الجواهر» أو بشيء آخر « وهي الأعراض» إلاّ ويكون مقارنته إيّاه أوّلاً، وكذلك لا يكون حصوله في نفسه أو لشيء إلاّ بعد حصول ذلك المعنى له وتحقّقه به، ولذا تجد ذلك اللفظ أظهر دلالةً وأكثر تداولاً في عبارات المحقِّقين عند إدارتهم إيّاه من سائر الأسماء والألفاظ(1).

 

العرفان وعوارضه الذاتيّة

فلئن قيل: الموضوع في كلّ علم على ما تعارف بينهم، هو ما يبحث في ذلك العلم عن أعراضه الذاتيّة الخاصّة به؛ أي المحمولات الخارجة عن ذات الموضوع اللاحقة إيّاها، إمّا لذاتها(2) أو لما يساويها، جزءً كان « مثل: الإنسان ناطق» أو خارجا « كالإنسان ضاحك»، ولا شك أنّ صدق ما يحمل هيهنا على الموضوع من الأسماء والحقائق « التي تكون من شؤونه الذاتيّة» لا يمكن أن يكون على سبيل اللّحوق؛ فإنّ ذلك الموضوع نفس الأسماء والحقائق على ما قلتم ولا شيء بخارج عنه أصلاً.


1ـ الوجود مفهومه أعمّ المفاهيم؛ لأنّ العدم بل كلّ شى‏ء يعرف به ومندرج فيه وخفاءه منّا، فهو أظهر الاشياء مصداقا، واقتضاءه للرؤية والمشاهدة والادراك تام، والمانع منّا، والوجود يرى نفسه تشخّصا وقضية: «لا تفكّروا في ذات اللّه» زجر ارشادي للمستضعفين من الناس ولا للخواص؛ لأنّ ادراكه يليق بشأنهم فقط.

2ـ كالزوجيّة بالنسبة إلى الأربعة.

الصفحة 28)

*********

سلّمناه، لكن نمنع أن يكون ذلك اللحوق لذاته أو لأمر يساويها، وإلاّ يلزم عدم انفكاك شيء من اللّواحق عن الموضوع العامّ، فالعامّ « أي الوجود» لا يكون عامّا بالنسبة إلى محمولات مسائله، فلا يكون جعله موضوعا أولى من غيره من المفهومات المساوية له(1).

وأيضا قد تقرّر على قواعد أهل التحقيق أنّ الأسماء والحقائق كلّها إنّما هي من مقتَضَيات الذات نفسها في نفسها لنفسها، فيمتنع أن تنفكَّ عنها فإنّ مقتضى الذات لا يمكن أن يتخلّف عنها أصلاً، فكيف يتصوّر حينئذ عموم ما دلّ عليها وإحاطتها بالنسبة إلى تلك الحقائق والأسماء(2).

قلنا: إنّ هيهنا مقدّمة لابدّ من الاطّلاع عليها أوّلاً، وهي أنّ كلَّ مفهوم إنّما يتصوّر عمومه بالقياس إلى الجزئيّات المندرجة تحته، لكن لتلك الجزئيّات اعتباران:

أحدهما، من حيث صدق ذلك المفهوم الكلّي عليها بما هو هو، واشتماله على كلّها، وبهذا الاعتبار ليست شيئا زائدا على نفس ذلك المفهوم أصلاً.

والآخر، من حيث حقائقها الامتيازيّة وخصوصيّاتها النسبيّة الاعتباريّة التي بها يمتاز كلّ منها عمّا عداه، وبهذا الاعتبار ليست نفس ذلك المفهوم، ولا داخلة فيه؛ بل إنّما هي من الأمور الخارجة عنه، اللاحقة إيّاه لذاته.

وذلك لأنّ خصوصيّة المعنى المحيط « أي الوجود» التي بها يمتاز عن سائر ما عداه ، إنّما هي الشمول والإحاطة، ولا شكّ أنّ هذه الخصوصيّةَ إنّما تقتضي ملحوقيّة المعنى المحيط بسائر المفهومات، وعدم مانعيّتها لشيء من الخصوصيّات المتقابل المتتابع المتمانع بعضها مع بعض، على ما هو مقتضى


1ـ فبناءً على هذا، يصلح العلم والقدرة وأيّ اسم من الأسماء الالهيّة أن يكون موضوعا لهذا العلم.

2ـ لأنّ الذات في وحدتها عين كلّ تلك الحقائق والأسماء، وإحاطتها عليها هي إحاطة الشيء على نفسها، ولا معنى محصّل له.

الصفحة 29)

*********

طبيعة الإحاطة والشمول، كما ستطّلع عليه.

وهذا يناسب ما تسمعه من ائمّة التحقيق يسمُّون الهويّة المطلقة «مجمع الأضداد»، ولهذه الدقيقة مواضعُ تقع في هذه الرسالة، فليكن على ذكر من المستبصرين.

فإذا تقرّر هذا، ظهر أنّ تلك الأسماء والحقائق بهذا الاعتبار من اللَّواحق التي تصلح لأن تكون مبحوثةً عنها في الفنّ، كما أنّ ملحوقها بذلك الاعتبار صالح للموضوعيّة.

ومساواتها للموضوع لو سُلِّمت لا ينافي موضوعيَّتها لتلك الأسماء والحقائق، كما في الخواصِّ واللوازم المساوية بالنسبة إلى الحقائق النوعيّة.

ثمّ إنّ اقتضاء الذات جميع الأسماء بنفسها واشتمال كلّ منها على الذات بجميع اعتباراتها وإن كانت مقرَّرة عندهم، لكنَّها إنّما تختلف بحسب ظهور أحكامها(1) في القوابل « أي المظاهر»، فإنّه قد يكون الغالب منها بحسب ظهور أحكامها في بعض المظاهر إسما كليّا، وقد يكون إسما جزئيّا، ويكون ذلك الغالب هو الظاهر الناعت له دون غيره من الأسماء، فإنّ أحكامها مستهلكة تحت حكم إسمه المهيمن، كما في الطبائع المركبَّة « كالانسان» عند حكمنا بأنّها حارّة أو باردة .

وإذا تقررّ هذا ظهر أنّه لا يلزم من اقتضاء حقيقة في نفسها إسما وعدم انفكاكه عنها في الوجود أن يكون ذلك الإسم ظاهرا حكمه في جميع صور تعيّناتها، ناعتا إيّاها في الكلّ.

المبادي المختصّة بالعلم الإلهي

وأمّا مباديه المختصّة به:

فالتصوريّة منها، هي تصوّر أُمّهات الحقائق اللازمة لوجود الحقّ سبحانه


1ـ لأنّ دولة الأسماء تختلف في مقام الإيجاد.

الصفحة 30)

*********

المسمّاة عند القوم بالأسماء الذاتيّة، وما يليها من أسماء الصفات، ثمّ أسماء الأفعال وأسماء النسب والإضافات الواقعة بين كلّ منها(1).

والتصديقيّة منها، هي الحكم عليها بثبوتها في نفسها أو بثبوت بعض لوازمها لها .

فلئن قيل: يجب أن يكون المبادي إمّا بيّنة بنفسها، أو مبيَّنة في العلم الأعلى مسلّمة في علمها، وهذه الحقائق لمّا لم تكن بيّنة بنفسها « لأنها نظريّة محتاجة إلى البحث»، تجب أن تكون مبيّنة في العلم الأعلى، ولا أعلى من هذا العلم، على ما تقرّر .

قلنا: طريق استعلام المبادي على ما تقررّ، وهي الحقائق المذكورة في هذا العلم أيضا إنّما بأحد الوجهين:

إمّا بظهور آثارها في العالَم، ومشاهدة العارف لتلك الآثار والأحكام حسّا وعقلاً أو حدسا وكشفا، وتَعَلُّمه منها، وهو بمنزلة البيِّنة في العلوم الرسميّة.

وإمّا بأخذها عن صاحب كشف أعلى وأتم منه، كالكمّل من الأنبياء والأولياء، وذلك بمنزلة المبيَّن في العلم الأعلى(2).

لا يقال: إنّما يصحّ ذلك لو كان عندهم ميزان يتميزّ به صحيح ما يختصُّ بذلك العلم عن غيره، كما هو في سائر العلوم النظريَّة، حتّى يؤخذ ما يؤخذ من تلك العلوم مُعَيِّرا بمعياره الصحيح، وإلاّ فلا تعويل في العلوم الحقيقيَّة على ما حَصَل منها بمجرّد التقليد .

لأنّا نقول: ممنوع أنّه ليس عندهم آلة كذلك، فإنّه قد ثبت عند المحقّقين من أهل الكشف، أنّ له بحسب كلّ شخص ووقت ميزانا ومرتبةً يناسبه، ولذلك تجدهم يُظهِرون لشخص من تلك الحقائق ما يُخْفُون عن آخر، ويَخفون عنه


1ـ المعبّر عنها ب «نكاح الأسماء»، ولا يخفى أن يكون كلّ اسم من أسماء اللّه أمّا وربّا.

2ـ فتكون بيّنةً بنفسها؛ لأنّ كلّ انسان مربّى لاسم من الأسماء ومأنوس به، مبيّنةً بتعلّمه من الأنبياء عليهم‏السلام .

الصفحة 31)

*********

في وقت ما يُظْهِرون له في وقت آخر، ولولا ذلك ما يمكن للإنسان من التفرقة بين الإلقاء الصحيح الالهي وبين التسويل الفاسد الشيطاني(1).

 

مسائل العلم هيهنا

وأمّا المسائل هيهنا، فهي عبارة عمّا تتبيَّن به متعلّقات هذه الحقائق والأسماء من المراتب والمواطن، وتخصيص كلّ منها بموطنه ومَحْتده، فإنّ لكلّ اسم موطنا يختصُّ به، وهذا هو المراد بتوقيفيّة أسماء اللّه تعالى على قواعدهم، وبيان تفاصيل أحكامها ونسبها المختصّة بكلّ منها.

فإن قلت: المسألة في كلّ علم إنّما تُطلق على ما يُبرهَن عليه في ذلك العلم، فحيث لا برهان كيف يُتصوّر المسألة؟

قلت: البرهان إنّما هو تأليف المبادي اليقينيَّة من البينِّة أو المسلَّمة، بحيث ينساق إلى الحكم المطلوب المسمّى ب «المسألة»، وإذ قد عرفت في هذا العلم ما هو بإزاء الضربَيْن المذكورين من المبادي(2)، فما حصل ممّا يتألّف منها عند استحصال المطالب العلميَّة والمعارف الحقيقيّة، تَكون مسألةً.

« فنقول في حسم مادّة كلّ الإيرادات» على أنّ هذا كلُّه إنّما هو قواعدُ مصطلحة في العلوم الرسميّة الجزئيَّة المقيّدة، فلا يلزم انطباقها على العلم الكلّي المطلق، لِما بُيّن من مباينة خصوصيّة المطلق لخصوصيّات جزئياته، وعدم وجوب انطباق أحكام الجزئيّات على الكلّي المنطبق على جزئيّاته؛ إذ الواجب إنّما هو انطباق أحكام الكلّي المطلق على جزئيّاته دون العكس، لكن لمّا كان مبنى الكلام في هذه الرسالة إنّما هو على طريقة أهل النظر والاستدلال، لا يكون التزام هذه التطبيقات خارجا عن قانون التوجيه كلَّ الخروج.


1ـ الحكمة البرهاني والكشف الشهودي وإن كانا مصونا من الخطأ والزلل، ولكنّ الحكيم الفلسفي والعارف الالهي لا يكونان معصومين عنها، وهذا يوجب ميزانا لكي يتميّز به الصحيح عن غيره، وهو ليس إلاّ الوحي والسنّة القطعيّة.

2ـ أي التصوّريّة والتصديقيّة، فهما الكشف التامّ والأخذ من صاحبه.

الصفحة 32)

*********

تتميمٌ في معنى الوجود

إعلم أنّ بعض الألفاظ المتداولة هيهنا لما فيه من الاشتراك بحسب عرفَيْ أهل النظر والتحقيق، يقع للدخيل « أي المبتدي» اختباط باختلاط الاصطلاحين، وأخذ أحدهما مكان الآخر، فوجب التنبيه أوّلاً للمعنيين حسب الاصطلاحين تحريرا للبحث.

منها، لفظ الوجود؛ فإنّه عند أهل النظر إنّما يطلق على الكون في الأعيان، أو الكون مطلقا، والكون في عرفهم وإن كان مرادفا للوجود، إلاّ أنّه يحسن عندهم، أن يعرِّفوا أمثال هذه الطبائع البسيطة بلفظ أجلى منه، تعريفا لفظيّا تنبيهيّا.

زيادة الوجود على الماهيّة

ثمّ إنّ الوجود عندهم لمّا كان أمرا زائدا على ماهيّات الموجودات، ولم يكن لشيء منها تحقّق إلاّ باقترانه إليه، ودخوله في نوع من أنواع مطلق الحصول، حقيقيّا كان أو اعتباريا، تخيّلوا أنّ نسبة الماهيّات إلى الوجود كنسبة الأجسام إلى الحيِّز، فكما أنّ لكلّ جسم اختصاصا طبيعيّا بمكان خاصّ لا يتعدّى من نوع ذلك المكان أصلاً، كذلك الماهيّات بالنسبة إلى الوجود؛ فإنّ منها ما لا يكون لها تحقّق إلاّ بحسب الفرض العقلي، وهو الذي وجودها في القوى المدركة فقط كالنسب والاضافات الاعتباريّة، وهذا النوع من الوجود يسمّى عندهم بالوجود الفرضي، والأمور الاعتباريّة معروضاته .

ومنها، ما يكون لها تحقّق خارج الفرض والاعتبار(1)، سواء وجد الفرض العقلي، أو لم يوجد، ويسمّى عندهم بالوجود الحقيقي والوجود في نفس الأمر.


1ـ ويكون هذا أيضا بناقص؛ لأنّ للقسم السابق تحقّقا خارج الفرض، ونفسيّة أمره كانت بيد المعتبر، وفي الأوّل منه له نفسيّة بلحاظ الحمل الشائع لا بلحاظ الحمل الأوّلي إلاّ أن يكون المراد بخارج الفرض الوجود الخارجي، سواء يكون موجودا في الخارج أو يكون اتّصافه فقط في الخارج.

الصفحة 33)

*********

ومن هذا القسم ما يكون بالقياس إلى الخارج أيضا موجودا، وهو المسمّى بالوجود الخارجي؛ أي الخارج عن المشاعر، ومنه ما يكون تحقّقه في المشاعر كالنِّسب والإضافات الحقيقيّة وسائر ما يقع في الدرجة الثانية من التعقُّل « أي المعقولات الثانية المنطقيّة»(1).

لا يقال: فحينئذ يكون هذا من أقسام الوجود الفرضي، ضرورة أنّ حصوله إنّما هو في القوى المدركة؛ لأنّا نقول: حصوله وإن كان في القوى المدركة ولكن ليس مختصّا بها، بل له في الخارج عنها وجود، فهو من أقسام الموجودات الحقيقيّة؛ إذ محصَّل هذا التقسيم أنّ ما يتصوّره العقل لا يخلو من أن يكون قابلاً للحوق الوجود في نفسه، أو يكن، فان لم يكن فهو الموجودات الفرضيَّة وإن كان قابلاً له، فهو الموجود الحقيقي ، وذلك لا يخلو من أن يختصّ بلحوقه له خارجا عن المشاعر أو لا، فالأوّل هو الموجود الخارجي، والثاني هو الموجود الذهني .

في معنى الصدق ونفس الأمر

فعلم من هذا: أنّ الموجودات الذهنيَّة المذكورة من أقسام الموجود الحقيقي والموجود في نفس الأمر، فنفس الأمر حينئذ أعمّ من الخارج، لأنّه متى تحقّق أمر في الخارج تحقّق في نفس الأمر، وليس كلّ ما تحقّق في نفس الأمر تحقّق في الخارج، فإنّ إنسانيّة زيد المعدوم في الخارج متحقّق في نفس الأمر، وليس بمتحقّق في الخارج.


1ـ إن كان المراد بما يكون تحقّقه في المشاعر عروضا واتّصافا مثل: «الإنسان كلّي»، فهذا لا يكون خارجيّا وإن كان له نفس الأمر. وإن كان المراد منه ما يكون عروضه ذهنا لا اتّصافا يكون هذا خارجيّا وله نفس الأمر أيضا، فعلى هذا، جميع ما في الدرجة الثانية له نفسيّة الأمر وإن لم يكن خارجيّا وجودا واتّصافا. ولفظ التحقّق في المقام لا يناسب، وما في المعقول من العروض والاتّصاف في بيان الأقسام صحيح ويظهر منه أمرين:

الأوّل، القضيّة لها خارجيّة نفسيّة، والثانية أعمّ من الأولى. وفي المقام خلط في الثاني.

الصفحة 34)

*********

فلئن قيل: فكيف يُحكم بصدق إنسانيّة زيد المعدوم، وكذب حماريَّته إذا لم يكن لها مطابَق في الخارج أصلاً، والصادق هو الذي له مطابَق في الخارج دون الكاذب.

قلنا: إنّ الخارج مشترك بالاشتراك اللفظي(1)، تارةً يطلق ويراد به الواقع في الخارج ؛ أي الخارج عن اعتبار العقل، كما يقال: هذا الخبر له مطابَق في الخارج، وهذا ليس فيه مطابقٌ، وهو مرادف لنفس الأمر. وتارةً يطلق على ما يقابل الوجود الذهني، كما في بحثنا هذا، وهذا المعنى أخصّ من المعنى الأوّل كما عرفت آنفا.

وإذا تقرَّر هذا، ظهر أنّه لا يلزم من عدم مطابَق للخبر في الخارج بالمعنى الأخصّ، أن لا يكون له مطابَق فيه بالمعنى الأعمّ.

لا يقال: الضرورة قاضية هيهنا بأءنّ كلّ موجود ليس له وجود في القوى المدركة لابدّ وأن يكون له في الخارج عن تلك القوى وجود، وإلاّ لا يكون موجودا أصلاً، والقول بأنّ وراء الوجودَيْن أمرا آخر يسمّى بنفس الأمر، فممّا يحتاج هليّته إلى بيان، وإثباته إلى برهان(2).

لأنّا نقول: قد قيل في إثباته أنّه قد ثبت بمقتضى القوانين العقليّة وجودُ موجود في الخارج قائم بنفسه غير ذي وضع مشتمل بالفعل على جميع المعقولات التي يمكن أن تَخرج إلى الفعل، بحيث يستحيل عليه، وعليها التغيُّر والاستحالة والتجدّد والزوال، ويكون هو وهي بهذه الصفات أزلاً وأبدا، يُسمّونه بالعقل الكلّ « أو العقل الفعّال»، واللوح المحفوظ « الذي لا يشوبه التغيير» عندهم إشارة إليه. فقد أورد عليه بعض المتأخّرين نقضا بالواجب


1ـ فهو عام موجود في الخارج والذهن؛ سواء اعتبره أم لم يعتبره.

2ـ أي أنّ الوجود الخارجي بمعنى الأعم يشمل كلّ موجود من اللممكن والواجب، ولا شيء وراءه لكي يسمّى هو نفس الأمر إلاّ إذا أطلق الخارج على الطبيعة ونفس الأمر على عالم الأمر والملكوت.

الصفحة 35)

*********

والعقول، فإنّه يلزم أن لا يكون لهما وجود في نفس الأمر حينئذ، وحقَّقَ بعد ذلك بما حاصله: أنّ نفس الأمر عبارة عن حقائق الأشياء بحسب ذواتها مع قطع النظر عن الأمور الخارجة عنها.

ولا يخفى أنّ هذا التحقيق إنّما أفاد هيهنا زيادة إجمال من القول، أللّهم إلاّ أن يحمل كلامه على ما ذهب إليه المتقدِّمون، من أنّ سائر المعقولات من الصور والمعاني ، لها تمثّل في نفسه وتقرّر في ذاته على ما هو مذهب المحقّقين(1)، لكن لمّا كان المعترض من نفى هذا القول، لا يمكن حمل كلامه عليه.

والوجه في تحقيق هذا الكلام على طريقتهم أن يقال: إنّ نفس الأمر عبارة عمّا ثبت فيه الصور والمعاني الحقَّة؛ أعني العالم الأعلى الذي هو عالم المجرّدات، ويؤيِّده إطلاق عالم الأمر على هذا العالم، وذلك لأنّ كلّ ما هو حقّ وصدق من المعاني والصور لابدَّ وأن يكون له مطابَق في ذلك، كما يلوح تحقيقه من كلام معلّم المشّائين أرسطو في الميمر « وهو إطلاق الكلام مع الايماء والاشارة» الثامن من كتابه في العلم الإلهي، المسمّى ب «أثولوجيا»(2)، بعد فراغه عن أنّ العالم الأعلى هو الحيّ التامّ الذي فيه جميع الأشياء، وأنّ هذا العالم الحسّي كالصَّنم والأنموذج لذلك العالم من أنّ أوّل فعل الحقّ هو العقل الأوّل؛ فلذلك صار له من القوّة ما ليس لغيره، وأنّه ليس جوهر من الجواهر التي بعد العقل الأوّل، إلاّ وهو من فعل العقل الأوّل، وإذا كان هذا كذلك، قلنا: إنّ الأشياء كلّها هي العقل، والعقل هي الأشياء « لأنّه فصل محصّل لكلّ شيء»، وإنّما صار العقل هو جميع الأشياء(3)؛ لأنّ فيه جميعَ كليّات الأشياء


1ـ فهو المسمّى عندهم بالأعيان الثابتة أو الممتنعات؛ لامتناع خروج ما فيه من العلم إلى العين، بل يظهر مظاهره عنه فقط.

2ـ وهو منسوب ب «أفلاطن» الالهي لا الارسطاطاليس.

3ـ وهو إن كان كلاما صحيحا ولكن لا يوجّه هذا التفسير.

الصفحة 36)

*********

وصفاتها وصورها وجميع الأشياء التي كانت وتكون مطابقةً لما في العقل الأوّل كما أنّ معارفَنا التي في نفوسنا مطابقة للأعيان التي في الوجود، ولا يمكن غير ذلك.

ولو جَوَّزنا غير ذلك؛ أعني أن يكون بين تلك الصُّور التي في نفوسنا وبين الصور التي في الوجود تباين أو اختلاف، ما عرفنا تلك الصور، ولا أَدرَكنا حقائقها؛ لأنّ حقيقة الشيء ما هو به هو، وإذا لم يكن، فلا محالة غيره، وغير الشيء نقيضه.

فإذن جميع ما تدركه النفس وتتصوّره من أعيان الموجودات، هو تلك الموجودات ، إلاّ أنّه بنوع ونوع(1).

وإنما أَوردتُ هذا الكلام كلّه؛ لأنّه مع انطوائه لما نحن بصدده مشتمل أيضا على تحقيق معنى الحقيقة، ومعنى الصدق والحقّ، وسبب تسمية هذا الوجود بالوجود الحقيقي وغيره من اللطائف، فليتأمَّل.

واعلم: أنّ أكثر مباحث هذا الكتاب لبعده عن الطبائع، وغرابته عن الأذهان منطوية على نصوص المشائخ لما أنّها عُرضة لأنظار أهل الاستدلال، وقلّ ما يوجد فيهم الناقد البصير، فلابدّ من التعرّض فيها لما يصلح؛ لأن يستند إليه ويعتمد عليه على ما اقتضت عادتهم وجرت عليه استفادتهم وإفادتهم ليطمئنَّ به قلوبهم بعض الاطمئنان، عسى اللّهُ أن يفتح عليهم بمفاتيح ذلك الإذعان والإيمان أبواب الحقّ واليقين، فإنّه هو الفتّاح المبين، وإلاّ فأمثال هذه الأبحاث لا يليق بها الاستشهاد بالأقاويل النقليَّة، كما لا يحتاج إليه نظم البراهين العقليّة، وهذا كلّه على رأي أهل النظر والاستدلال، وباقي الألفاظ لاشتهار معانيها المتعارفة عندهم وعدم الاشتباه فيها ما احتيج إلى التعرّض لها هيهنا.


1ـ أي مظاهر ذو هويّة واحدة تشكيكيّة، لها مراتب شديدة وضعيفة.

الصفحة 37)

*********

وأمّا عند المحقّقين، فالوجود ليس شيئا زائدا على الموجودات؛ بل الموجودات إنّما هي جزئيّاته النوعيَّة(1)، المقول هو عليها بهو هو، وتنوُّعاته المعيّنة المتمائزة بمجرّد النسب، وأحوالها الطارئة لها بحسب المدارك والمشاعر. فإنّ أعيان تلك الحقائق هي عين هويّتها ووجودها، لا غير، كما يلوح تفصيل ذلك من تحقيق الشيخ «رحمه اللّه» في كتابه المسمّى ب «انشاء الدوائر»، حيث قال: «إعلم أنّ الوجود والعدم ليسا بشيء زائد على الموجود والمعدوم. لكنّ الوهم يتخيَّل أنّ الوجود والعدم صفتان راجعتان إلى الموجود والمعدوم، ويتخيَّلهما كالبَيت قد دخلا فيه، ولهذا تقول: قد دخل هذا الشيء في الوجود بعد إن لم يكن(2)، وانّما المراد بذلك عند المحقّقين: «أنّ هذا الشيء وجد في عينه، والوجود والعدم عبارتان عن إثبات عين الشيء ونفيه. ثمّ إذا ثبت عين الشيء أو انتفى، فقد يجوز عليها الاتّصاف بالعدم والوجود معا، وذلك بالنسبة والإضافة، فيكون زيد الموجود في عينه موجودا في السُّوق، معدوما في الدار، فلو كان العدم والوجود من الأوصاف التي ترجع إلى الموجود، كالسواد والبياض، لاستحال وصفه بهما معا؛ بل إذا كان معدوما لم يكن موجودا، كما أنَّه إذا كان أسود لا يكون أبيض، وقد صحَّ وصفه بالوجود والعدم معا في زمان واحد، هذا هو الوجود الإضافي والعدم الإضافي مع ثبوت العين. فإذا صحّ أنّه ليس بصفة قائمة بالموصوف، ولا بموصوف معقول وحده دون إضافة، فثبت أنّه من باب الإضافة والنسب مطلقا، مثل المشرق والمغرب واليمين والشمال والأمام والوراء...»(3). إلى هنا كلامه بعبارته الشريفة.

أَطلِق عنان الفكر في فحاويها وأَمعِن لحاظ النظر في مَطاويها، حتّى يظهر


1ـ أي أفراده الوجوديّة لا الماهويّة التي يحتاج في تشخصّه الخارجي إلى أفراده.

2ـ والتعبير تسامحي وكان من ضيق خناق.

3ـ الكثرة اعتباريّة وإن كان لها نفس الأمر والمعتبِر أيضا، وهذا هو مبني على الوحدة الحقّة الشخصيّة للوجود.

الصفحة 38)

*********

لك أنّ ما فهمه المتأخِّرون من لفظ الوجود واصطلحوا عليه، حيث ذهبوا إلى أنّه من الاعتبارات العقليَّة العارضة للموجودات في العقل ليس من الوجود الحقيقي الذي هو أسّ عقائد المحقّقين ومبنى معاقدهم في شيء، ولا من الصفات الحقيقيَّة المختصَّة به؛ بل إنّما هو من الإضافات التي لا دَخل لها في حقيقة الوجود أصلاً، كما تبيَّن منها أيضا منشأ غلطهم ومزالُّ قدمهم.

والعجب كلّ العجب أنّ ما استدلّ به صاحب الإشراق على اعتباريَّة الوجود، هو أمر النسبة على الوجه الذي ذكره الشيخ «رحمه اللّه» بعينه، حيث جعل مفهوم زيد يوجد في السوق، وزيد يوجد في الدار، وزيد يوجد في الذهن، وزيد يوجد في العين ، كلُّها بمعنى واحد، وهو معنى النسبة المشار إليها(1)، قد جعل معنى الوجود منحصرا في المعنى النسبي بأمثال هذه الدلائل، وسيجيء لهذا البحث مزيد تحقيق، إن شاء اللّه.

معنى لفظ الكون واعتباران للوحدة

وأمّا لفظ الكون فقد قال الشيخ « الأكبر؛ ابن عربي» في شرح الألفاظ على طريقة أهل اللّه: «إنّ الكون كلّ أمر وجودي»، وتحقيق معنى هذا الكلام يحتاج إلى تمهيد مقدّمة جليلة الجدوى، وهي أنّ للوحدة اعتبارين:

أحدهما ذاتي لها، وهي بذلك الاعتبار تسمّى ب «الوحدة المطلقة والحقيقيَّة»، وهي كون الشيء بحيث لا يعتبر في مفهومه ما يشعر بتعدّد الوجوه والإثنينيّة أصلاً، حتّى أنّ عدم اعتبار الكثرة أيضا غير معتبر في مفهومه، لما فيه من الإشعار بمقابلَتِها للكثرة المستلزمة للإثنينيّة، فالواحد بهذا الاعتبار لا يكون في مقابلة شيء، ولا في مقابلته شيء، فلا يكون مقابلة للكثير، فيكونُ غيرَ الواحد المعتبر في الأعداد، وقولهم: «اللّه واحد لا بالعدد» إشارة إلى هذا المعنى.


1ـ والإضافة وإن كان غير المفهوم، وبينهما بون بعيد، ولكنّهما مساويين في أنّهما غير حقيقيّين.

الصفحة 39)

*********

والثاني لاحق لها، عارض إيّاها، وهي بذلك الاعتبار تسمّى ب «الوحدة الإضافيَّة والنسبيَّة»، وهو كون الشيء لا يَنقسم في ذاته إلى الأمور المتعدّدة من حيث هو كذلك ، والواحد بهذا المعنى هو الذي قيل فيه: إنّه مقابل للكثير تقابلاً عرضيّا.

الكثرة الحقيقيّة والإضافيّة

ثمّ أنّ الكثرة أيضا لها اعتباران:

أحدهما ذاتي لها، وهي بذلك الاعتبار يسمّى «الكثرة الحقيقيّة»، وهي كون الأشياء المتعدّدة بحيث لا يُعتبَر فيها ما يشعر بالجهة الاتحاديّة وما به الاشتراك أصلاً، حتّى أنّ عدم اعتبار الوحدة أيضا غير معتبر هيهنا، لما فيه من الإشعار بالجهة الاتّحاديّة.

فلئن قيل: عدم اعتبار ما يشعر بالجهة الاتحاديّة، جهة اتحاديَّة، يمكن أن يشترك فيها أفراد الكثير، وكذلك عدم اعتبار ما يشعر بتعدّد الوجوه مشعر بتعدّد الوجوه في مفهوم الوحدة المطلقة، وذلك لأنّه مفهوم عدمي لاحق لها بالإضافة إلى الغير، فيكون مغائرا لحقيقتها ضرورةً، ويلزم حينئذ تعدّد الجهات.

قلنا: إنّ للعقل أن يَفرض للأمور المجهولة حقائقها من حيث هي هي جهاتا، بالنظر إلى ذواتها بتصوّر تلك الحقائق « أي بالحمل الأوّلي»، ويُعبِّر عنها بتلك الجهات ، وإن كانت متنافيةً لتلك الحقائق بالنظر إلى الخارج عنها «أي بالحمل الشائع»، كما في قولنا: المجهول مطلقا يمتنع الحكم عليه، فإنّه فَرَضَ للذات المجهولة مطلقا وصفا معلوما، يتصوّرها به، ويَحكم عليها باعتباره، مع منافاة تلك الذات من حيث هي الذات لهذا الوصف.

فإن قلت: كيف يتصوّر أحد المتنافيين بالآخر، ويحكم عليه باعتباره،

الصفحة 40)

*********

والوجه الذي يعلم به الأشياء ويحكم عليها به، يجب أن يكون من الأوصاف المحمولة عليها بهو هو.

قلت: إنّ الأوصاف « أي المحمولات» لها اعتباران:

أحدهما بحسب طبائعها في نفسها، وهي بهذا الاعتبار لا منافاة بينها وبين ذواتها أصلاً؛ بل لابدَّ من صدقها عليها بهو هو.

والآخر بحسب العوارض اللاحقة إيّاها باعتبار حصولها في العقل، وإنّما يتحقّق المنافاة بهذا الاعتبار، وهذا ظاهر في المثال المفروض، فإنّ وصف المجهوليَّة إذا اعتبر طبيعته من حيث هي هي، لا منافاة بينه وبين ذاته أصلاً، وإلاّ لا يكون ذاتا له، ولا يكون صادقا عليها بهو هو.

أمّا إذا اعتبر معه الهويَّة اللاحقة له باعتبار حصوله في العقل، تتحقّق حينئذ باعتبار هذه الهويَّة العرضيَّة التي إنّما تلحقه بالنظر إلى الخارج عن تعيّنه المنافاة بينه وبين الذات، ولا شك أنّ العوارض اللاحقة للأشياء باعتبار الأمور الخارجة عن أنفسها، لا دخل لها في الأحكام الذاتيّة، وما يعرض تلك الأشياء لذواتها، وإلاّ يلزم أن لا يكون شيء من المفهومات باقيا على كليّتها عند تصورّها؛ إذ كلُّ ما حصل في العقل باعتبار حصوله فيه جزئي، وهذا من مقتضى الحكمة البالغة أنّه قد جعل اللّه للعقل قوّة خاصّة وغريزة بها يتصوّر المفهومات الحاصلة فيه كما هي هي معرّاة عن اللواحق الطارءة لها باعتبار حصولها العرضي وتقيّداتها التابعة للمَحّال الجزئيّة؛ حتّى يتمكّن من تميّز الأحكام الحقّة التي لها بحسب الأمر بعينه المفهمة المقوّمة لها والمميِّزة إيّاها في ذاتها عن غيرها من اللواحق العارضة لها باعتبار المجالي والمراتب؛ ليقدر بذلك على تصوّر الأشياء على ما هي عليه في الوجود، والتجلّي بالحقائق(1)


1ـ عطف على تصوّر. ومع هذا العطف أشار بأنّ لا بينونة بين العقل والعشق، ويكون العشق ظهور للعقل التامّ الكامل.

الصفحة 41)

*********

كما هي هي، وهذه القوّة من آثار ما أشير إليه آنفا بأنّه أوّل فعل الحقّ العقل الأوّل ومن تصوّر تعيُّناته في هذه النشأة، فتنبَّه.

والاعتبار الثاني للكثرة؛ وهو الذي يُسمّى «الكثرة الإضافيَّة والنسبيّة»، وهو كون الشيء بحيث ينقسم إلى الأمور المتعدّدة من حيث هو كذلك، والفرق بين هذا الاعتبار ، والاعتبار اللاحق للوحدة غير مُخْتَفٍ(1).

ثمّ إذا تحقّق هذا، فنقول: إنّ الوجود الواحد الحقّ الظاهر بنوره الذاتي، الذي هو المُجلّى له باعتبار غيب هويّته المطلقة، إذا اعتبرت التعدّدات الظاهرة في مَجْلاه، التي هي عبارة عن تعدّد الشّؤون المُتَجلِّي، كما ستحقّق في موضعه، إن شاء اللّه، حصل هناك باعتبارها في الحضرَتَيْن أربع اعتبارات: وحدةٌ وكثرة حقيقيّتان، ووحدة وكثرة نسبيّتان اعتباريّتان.

في معنى الحقّ والخلق والأسماء الالهيّة

فمتى اعتبرت الوحدة الحقيقيَّة في الحضرتين المذكورتين المتميّزتين بنسبتَي البطون والظهور، قيل: «حقّ». وإن اعتبرت الكثرة الحقيقيّة فيهما، قيل: «خَلْق» و«سِوى» و«مَظاهر» و«صُور» و«شؤون» ونحو ذلك. وإن اعتبرت الوحدة النسبيّة بأن أخذت جميعها نسبا راجعة إلى عين واحدة، قيل: هي «أسماء الحقّ» وأحواله.

وإن اعتبرت الكثرة النسبيّة بأن أخذت تلك الكثرة من حيث إنّها منتسبة إلى الأمر الجامع انتسابا مّا وعُقِلَت متوحّدة مُجرّدةً عن الصِبغة الوجوديّة، فهي «الأمر» المشار إليه المنسوب إلى الوجود المسمّى ب «الكون» و«حقيقة معنى العالم» و«عينه الثابتة»، ونحو ذلك .

فعلم من هذا: أنّ لفظ الكون بالمعنى الذي ذهب إليه المحقِّقون، يباين لفظ


1ـ والفرق بينهما أنّ في الوحدة نفي للانقسام، ولكن في الكثرة الاضافيّة يثبت الانقسام.

الصفحة 42)

*********

الوجود على اصطلاحهم، وأمّا على رأي أهل النظر، فبينهما تساوٍ؛ بل ترادف على ما سبق، فيكون بين معنَى الوجود، عموم وخصوص من وجه؛ لتصادقهما في الماهيّات الحقيقيَّة، وتخالفهما في الحقائق « والأسماء» الإلهيّة «الوجودية» والصور الكونيّة « الماهويّة».

لا يقال: الماهيّة عند أهل النظر غير موجودة في نفسها، فكيف تكون مادّة التصادق؟ لأنّ الكلام إنّما هو في الماهيّات الحقيقيَّة الموجودة، وهي بذلك الاعتبار صالحة للتصادق وبين معنَي الكون عموم وخصوص مطلقا؛ ثمّ إنّه، قد ظهر لك ممّا سلف من البيان: أنّ للوحدة اعتبارتين.

فاعلم، أنّ أحد اعتبارَي الوحدة وهو الحقيقي منهما، هو معنى «الإطلاق» الذي يلحق الوجود لذاته، ويقتضيه أوّلاً، فإنّه من خواصِّه اللازمة البيِّنة، فحقيقةُ الوجود حيث يظهر لا يظهر إلاّ به، ولا يتحقّق أحكامها إلاّ باعتباره، وظاهر الوجود في كلام المحقّقين عبارة عنه، فإنّ الظاهر من الشيء هو أوّل ما يدرك به الشيء منه، والوجوب إشارة إليه.

والثاني من الاعتبارين، وهو النسبي منهما، هو الذي يُلاحَظ فيه الرَقائق الارتباطيَّة الراجعة إلى العين الوحدة، ولا شكّ أنّه إنّما يلحق الوجود « بل عينه» بعد اعتبار لحوق العلم إيّاه، فهو الذي تقتضيه الطبيعة العلميّة أوّلاً، وتظهر به أحكامُها، و«الإمكان» إشارة إليه.

وهيهنا نكتة شريفة لطيفة يظهر بالتأمّل، وسيجيء لهذا الكلام ولباقي الألفاظ المتداولة لديهم في أثناء الكلام على الرسالة زيادة بيان وتحقيق، إن شاء اللّه وحده العزيز، فلا نُطَوّل المقدّمةَ بها.

الصفحة 43)

*********

الصفحة 44)

*********

 

پایگاه اطلاع رسانی دفتر حضرت آیت الله العظمی محمد رضا نکونام(مدّظلّه العالی) |صفحه اصلیصفحه اصلی  نقشه سایتنقشه سایت  آر اس اس آر اس اس  پادکست پادکست  پخش آنلاین دروس پخش آنلاین دروس  درباره پایگاهدرباره پایگاه

copyright 2007-2013 تمامی حقوق این سایت متعلق به دفتر حضرت آیت الله العظمی محمد رضا نکونام (مدّظلّه العالی) می باشد و استفاده از مقالات ، کتاب ها و... با ذکر منبع بلامانع است